الثلاثاء، 11 فبراير 2014
3:55 م

مختارات من شعر الحطيئة وأخباره الجزء -1-


مختارات من  شعر الحطيئة وأخباره الجزء -1-






بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين




قال أبو حاتم سهل محمد السجستاني: أخبرنا الأصمعي، قال: كان من حديث الحطيئة والزبرقان بن بدر البهدلي أن الزبرقانَ خرج يريد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة مجدبة ليؤدي إليه صدقات قومه، فلقي الحطيئة بقرقرى، ومعه امرأتان أو امرأةٌ وابنان يقال لأحدهما سوادة وللآخر إياس، وبنات له.
فقال له الزبرقان: أين تريد؟ فقال: العراق، حطمتني السنة. فقال له: هل لك في جوارٍ كريم ولبنٍ كثير وتمر؟ قال: ما أرجو هذا كله.
قال له الزبرقان: فإن لك هذا. فسر إلى أم شذرة امرأتي، وهي بنت صعصعة، وهي عمة الفرزدق.
فكتب إليها أن أحسني إليه، وأكثري له من التمر واللبن.
فقدم عليها، وكان دميماً سيئ الحال، لا تأخذه العين، ومعه عيال كثير. فلما رأته هان عليها، وقصرت به. فرأى ذلك بنو أنف الناقة، وهم بيت سعد، فأرسلوا إليه أن ائتنا، فنحن خير لك، وكتموا المرأة اسمه، فلم تعرفه.
وكانوا إذا دعوه إلى أنفسهم يأبى ويقول: إن من رأى النساء التقصير والغفلة؛ ولست أحمل على صاحبي ذنبها.
وألح عليه شماس بن لأي، وبغيض، والمخبل - وكان المخبل سليط اللسان، وهو ابن عمهم - وعلقمة بن هوذة؛ وكان علقمة أشد القوم إلحاحاً عليه، لشعرٍ قاله الزبرقان فيه؛ وهو قوله:


لي ابنُ عمٍّ لا يزا ... لُ يعيبني ويعنيُ عائب

وأعينهُ في النائبا ... تِ ولا يعين على النوائب
تسري عقاربه إل ... يَّ ولا تنبهه عقاربْ
لاهِ ابنُ عمكَ ما تخا ... فُ الجازياتِ من العواقب
وكان علقمة ممتلئاً غيظاً عليه لهذا الشعر. وكان الآخرون ممتلئين حسداً وبغياً. فأما حماد
الراوية فزعم أن الملح عليه بغيض.
فمكث الحطيئة بتلك الحال أشهراً، والزبرقان بالمدينة.
ثم إن امرأة الزبر قان استأنفت العشب فتحملتْ؛ وقالت للحطيئة: أرد عليك الإبل، فتركته يومين وليلتين. فاغتنم ذلك بنو شماس - وهم بنو أنفِ الناقة - فأتوه، فقالوا له: احتمل أيها الرجل. فقال: أما الآن فنعم.
فأتاه بغيض بن عامر بن شماس - وكان شريفاً - فاحتمله حتى أتى به أهله، فأكثروا له من التمر واللبن، وأعطوه لقاحاً وكسوة - قال: اللقاح، واللقحُ واحدتها لقحةٌ ولقحةٌ ولقوح - وهي الحلوب - وأبطأ عليهم أن يهجو الزبرقان.
والزبرقان من بني بهدلة، وكان في بني بهدلة قلةٌ، ولم يكونوا إلى هؤلاء ولا قريباً، غير أن الزبرقان قد كان بنفسه شريفاً منيعاً، عضب اللسان، فحضضوا الحطيئة عليه. فقال: لست بهاجيه ولا ذنبَ له فيما صنع امرأته، ولكني ممتدحكم، وذاكر ما أنتم له أهل.
وأما حماد الراوية فقال: قالوا له أبطأت أن تسمع شباننا بعض ما يتغنون به من شتم هذا الكلب. فقال: قد أبيتُ عليكم أهون من شتمه، ولا ذنبَ له فيما أتتْ به امرأته؛ ولكن إن شئتم مدحتكم؛ فأنتم أهل ذاك.
فقالوا:


ما مدحنا من لم يشتم الزبرقان؛ ولم يقصروا في كرمته.

فلما أكثروا عليه قال يمدحهم، ويعرض بهجو الزبرقان وقومه؛ والقصيدة:
ألا أبلغ بني كعبٍ رسولاً ... فهل قومٌ على خلقٍ سواءُ
وأما أولها عندي فعلى غير هذا.
قال أصحابنا: فلما قدم الزبرقان على أهله سأل عن الحطيئة، فقالوا: تحول إلى بغيض، فأتاهم، فقال: ضيفي، وأنا أرسلته إلى امرأتي، ولكن كان منها الجهل. فقالوا: ما هو لك بضيف، وقد أهنته وطردته، فتلاحوا حتى كان بينهم تناصٍ وشجاج - تناصٍ: أخذٌ بالنواصي - فاستعدى عليهم الزبرقان عمر بن الخطاب رحمة الله عليه. فقال: ليذهب إلى أي الحيينِ أحب؛ فإنه مالكٌ لنفسه.
فلما رأى الزبرقان أنه اختار عليه أرسل إلى رجلٍ من النمر بن قاسط، يقال له دثار بن سنان؛ فهجا بغيضاً وبني قريع؛ فقال:
أرى إبلي بجوف الماءِ حنتْ ... وأعوزها به الماءُ الرواءُ
الماء الرواءُ: الكثير: قال الراجز:
يا إبلي ما ذامُه فتأبيه ... ماءٌ رواءٌ ونصيٌّ حوليهْ
وقد وردتْ مياه بني قريعٍ ... فما وصلوا القرابة مذْ أساءوا
تحلأُ يومَ وردِ الناسِ إبْلِي ... وتصدرُ وهي محنقةٌ ظماءُ
ألمْ أكُ جاهَ شماسِ بن لأيٍ ... فأسلمَ حين أنْ نزلَ البلاءُ
فقلتُ تحولي يا أمَّ بكر ... إلى حيثُ المكارمُ والعلاءُ
وجدنا بيتَ بهدلة بنِ عوفٍ ... تعالى سمكهُ ودَجَا الفناءُ
دَجَا: من قولهم: عيش داج إذا كان خافضاً ساكناً. والفناء: ما امتد مع الدار من جوانبها.
وما أضحى لشماسِ بنِ لأي ... قديم في الفعال ولا رباءُ


سوى أن الحطيئةَ قال قولاً ... فهذا منْ مقالكم جزاءُ

وقال دثار بن سنان أيضاً:
دعاني الأثبجانِ ابنا بغيضٍ ... وأهلِي بالفلاةِ فمنياني
الثبجة: الحدبة في الصدر.
وقالا سرْ بأهلكَ فأتينَّا ... إلى حب وأنعامٍ سمان
فسرتُ إليهمُ عشرينَ شهراً ... وأربعةً فذلكَ حجتان
فلمَّا أنْ أتيتُ بني بغيضٍ ... وأسلمني لدائي الداعيان
يبيت الذئب والعثواءُ ضيفاً ... لنا بالليل بئسَ الضائفان
أمارسُ منهما ليلاً طويلاً ... أهجهجُ عن بنيَّ ويعروانِ
يروى: ويغشيان.
تقولُ حليلتي لما اشتكينا ... سيدركنا بنو القرمِ الهجان
سيدركنا بنو القمر ابن بدرٍ ... سراجُ الليلِ للشمس الحصان
فقلتُ ادعي وأدعُ فإنَّ أندَى ... لصوتِ أن ينادِيَ داعيان
ويروى: فقلت ادعي وأدعو إن أندى. ومعنى الأول: فقلت: ادعي ولأدعُ؛ فلذلك جزمه. ويقال: فلان أندى صوتاً من فلان؛ أي أبعد مذهباً
فمنْ يكُ سائلاً عني فإني ... أنا النمريُّ جارُ الزبرقانِ
طريدُ عشيرةٍ وطريدُ سربٍ ... بما اجترمتْ يدي وجنى لساني
كأني إذ حللتُ به طريداً ... حللتُ على الممنعِ من أبانِ
أبان: جبل. والمنع: العالي الذي يمتنع من أن يبلغه أحد.
أتيتُ الزبرقان فلم يضعني ... وضيعني بتريمَ من دعاني
فلما بلغ ذلك الحطيئة هجا الزبرقان، فقال:
واسم الحطيئة جرول بن أوس


بن جؤية بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس، وكنيته أبو مليكة.

والله ما معشرٌ لاموا امرأً جنباً ... في آلِ لأي بن شماسِ بأكياسِ
الجنب، والجانب، والأجنب، والأجنبي: الغريب. قال القطامي في الجانب:
فسلمتُ والتسليمُ ليس يسرها ... ولكنه حقُّ على كلِّ جانب
لقد مريتكم لو أن درتكم ... يوماً يجئ مسحي وإبساسي
المري: أن تمسح ضرع الناقة بيدك لتدر؛ فضربه مثلاً؛ أي قد رفقتُ بكم فلم يجيء رفقي بخير. والإبساس: دعاء الناقة، وهو أن يقول: بس بس.
وقد مدحتكم عمداً لأرشدكم ... كيما يكون لكم متحي وإمراسي
المتح: استقاء الماء ببكرة. والإمراس: أن يزول الحبل عن مجراه من البكرة فيرد إليه. يقال: أمرسته إذا رددته إلى مجراه. وأمرسته: صرفته عن مجراه. وهو من الأضداد. ومرس الحبل: زال عن مجراه. قال الكميت:
ستأتيكم بمترعةِ ذعافاً ... حبالكم التي لا تمرسونا
وقد نظرتكمُ إيناَء صادرةٍ ... للخمسِ طالَ بها حوذي وتنساسي
الخمس: سير أربعة أيام، ووردُ اليوم الخامس، عن أبي الهيثم خالد بن كلثوم؛ أي انتظرتكم كما تستأني الإبلُ الصادرة التي ترد الخمس. والحوذ: السوق قليلاً قليلاً. ويروى: حوزي. والنس: السوق. والتنساس كقولك الترداد والتكرار.
لما بدا لي منكمْ غيبُ أنفسكم ... ولم يكنْ لجراحي منكم آسي
يقال للطيب آسيٍ. والأسوُ: الإصلاح.
أجمعتُ يأساً مبيناً من نوالكمُ ... ولا ترى طارداً للحرِّ كالياسِ
يروى: يأساً مريحا.
ما كان ذنبُ بغيضٍ أن رأى رجلاً ... ذا فاقة حلَّ في مستوعرٍ شاسِ
هذه رواية حماد الراوية. وروى الأصمعي:
ما كان ذنبُ بغيضٍ لا أبالكمُ ... في بائسٍ جاء يحدو آخر الناس
ورواية حماد أجود، لئلا يتكرر: الناس في القافية؛ فيكون إيطاءً قبيحاً.
يقال: مكان شأس، وشأزٌ: وعر، أي لم يكن له ذنب حين دعاني فأحسن إلي؛ لأنه رآني ضائعاً.
جاراً لقومٍ أطالوا هونَ منزله ... وغادروهُ مقيماً بين أرماسِ
الأرماس: القبور. يقول: كنتُ كأني ميتٌ بين الأموات. ضربه مثلاً.
ملوا قراه وهرتهُ كلابهمُ ... وجرَّحوهُ بأنيابٍ وأضراسِ
هرته كلابهم: ضربه مثلاً. وجرحوه بأنيابٍ وأضراس: أساءوا له القول.
لا ذنبَ لي اليومَ إنْ كانتْ نفوسكمُ ... كفاركٍ كرهتْ ثوبي وإلباسي
أي إن كانت نفوسكم لي كنفسِ الفارك - وهي المبغضة لزوجها - ضربه مثلاً.



من يفعل الخيرَ لا يعدمْ جوازيهُ ... لا يذهبُ العرفُ بينَ اللهِ والناسِ

قال أبو حاتم سهل بن محمد: سمعت الأصمعي يتعجبُ من جودةِ هذا البيت، وقال: جاء بمثلين في بيت واحد. وقال: مثلُ هذا في الجودة بيت النابغة:
جيشٌ يظلُّ به الفضاءُ معضلاً ... يذرُ الإكامَ كأنهنَّ صحارى
الفضاء من الأرض: البارزة التي ليس فيها جبل.
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها ... واقعدْ فإنكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي
وابعثْ يساراً إلى وفرٍ مذممة ... واحدجْ إليها بذي عركينِ قنعاسِ
أي إلى إبلٍ موفورة. مذممة: لا يعطى منها أحد شيئاً، ولا يمنحُ ولا يقرى منها ضيفٌ. والذمُّ في المعنى يقع على صاحب هذه الإبل الوافر. واحدج إليها بعيراً ذا عركين، والعركان مثل الضاغطين. وقنعاس: شديد. والحداجة: مركب.
قد ناضلوكَ فأبدوا من كنائنهم ... مجداً تليداً ونبلاً غيرَ أنكاسِ
أي لما رميتَ ورموا فلجوا عليك، وجاءوا بما لم تجئ به، كأنهم فاخروه فرجحوا عليه بآبائهم وأجدادهم. وضرب النبل والكنانة مثلاً.
وقال أبو الهيثم خالد بن كلثوم: النكس من السهام: المنكوس الذي جعل أعلاه أسفله؛ فهو ضعيف أبداً، فأراد أن ما افتخروا به ورموك به من فخرهم كان قوياً كنبلٍ ليست بأنكاسٍ.
ما كان ذنبيَ أن فلتْ معاولكمْ ... من آل لأيٍ صفاةٌ أصلها راسي
الراسي: الثابت. أي ما كان ذنبي أن أردتموهم فلم تعمل محافركم فيهم.
فاستعدى عليه الزبرقان عمر بن الخطاب، فرفعه عمر إليه واستنشده، فأنشده، فقال عمر لحسان بن ثابت: أتراه هجاه؟ فقال: نعم، وسلح عليه. فحسبه عمر.
فقال وهو في الحبس:
ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مرخِ ... زغبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبهمْ في قعرِ مظلمةِ ... فاغفر عليكَ سلامُ اللهِ يا عمرُ
أنتَ الإمامُ الذي منْ بعدِ صاحبهِ ... ألقى إليه مقاليدَ النهى البشر
ما آثروكَ بها إذ قدموكَ لها ... لكنْ لأنفسهم كانتْ بك الإثرُ
الإثرة: الخاصة. آثره إيثاراً: خصهُ دون غيره. واستأثر بكذا: اختص به نفسه. ويقال: من يملك يستأثر.

0 التعليقات:

إرسال تعليق